واقعتان مررت بهما الأسبوع الماضي جعلتاني أتحسر على وضع الكتب والقراءة والثقافة بوجه عام في مصر.
الواقعة الأولى حدثت لي في مكتبة جامعة نيويورك حيث أقضي هذا الصيف في محاولة لكتابة الفصل الأخير من كتاب عن التاريخ الاجتماعي والثقافي لمصر في القرن التاسع عشر. الكتاب يتضمن فصلين عن تاريخ الطب، الأول عن تاريخ مؤسسة القصر العيني، والثاني عن تاريخ الصحة العامة في البلد ككل وليس القاهرة فحسب.
أحد الأسئلة المحورية التي أطرحها في هذا الكتاب هو معرفة موقف المجتمع المصري من الطب الحديث، وتحديدا من تلك الممارسات الطبية التي قد تبدو متعارضة مع الدين والشرع، لذا اهتممت بدراسة قضايا مثل التشريح وفتح الجثث والتطعيم والكشف على الأموات وغيرها من الممارسات الطبية الحديثة.
وللإجابة على هذه الأسئلة ترددت على مدار السنوات الماضية على دار الوثائق القومية علني أجد مادة تاريخية تمكنني من الإجابة على هذا السؤال. ونظرا لغنى دار الوثئق وفرادة مقتنياتها قد تمكنت بالفعل من العثور على وثائق غاية في الأهمية والطرافة عن مواضيع مثل رد فعل الناس على التطعيم ضد الجدري، وإقبالهم على المستشفيات الحديثة أو أحجامهم عنها، وموقفهم من التشريح وفتح الجثث، بالإضافة إلى الخطوات العديدة التي اتخذتها الدولة للارتقاء بالخدمات الصحية في البلد.
كان ما ينقصني هو التعرف على موقف الأطباء أنفسهم من هذه الممارسات الجديدة. فمن المعروف أن الدفعات الأولى التي دخلت القصر العيني كانت مكونة من خريجي الأزهر، وبالتالي كان لهؤلاء الطلاب خلفية فقهية ودينية لا بأس بها. كان من المهم لي أن أقف على رأي هؤلاء الأطباء فيما كانوا يمارسونه بعد التخرج من قصر العيني، وتحديدا موقفهم من قضايا مثل التشريح وفتح الجثث وعلاقتهم بالموروث الطبي العربي القديم بشكل عام.
ولكن بالرغم من غنى المادة الأرشيفية التي تحتفظ بها دار الوثائق لم أجد فيها ما يمكنني من الإجابة على هذا الشق من سؤالي البحثي، لذا قررت أن أذهب للمبنى الملاصق، أي دار الكتب، لأبحث فيها عما قد يكون هؤلاء الأطباء الأوائل قد ألفوه من كتب. فمن الباحثين المتخصصين في تاريخ مطبعة بولاق (وأهمهم الدكتورة عايدة نصير) من تمكن من تحديد عنواين أوائل مطبوعات تلك المطبعة الرائدة، ومما يلفت الانتباه أن أكثر من ثلث هذه العنواين كانت في مواضيع طبية. وقد اقتفى هؤلاء الأطباء الجدد أثر الأطباء العرب والفرس في العصور الوسطى ونحتوا عنواين مسجوعة لمؤلفاتهم. فمثلا كان هناك كتاب بعنوان "المنحة في سياسة علم الصحة"(1834)، وآخر بعنوان "مبلغ البراح في فن الجراح" (1835)، وثالث بعنوان "ضياء النيرين في مداواة العينين" (1840)، ومن ضمن هذه الكتب أيضا كتاب بعنوان "روضة النجاح الكبرى في العمليات الجراحية الصغرى" (1843)، وآخر بعنوان "بهجة الرؤساء في أمراض النساء" (1844).
أغلب هذه الكتب كانت مترجمة عن الفرنسية لكن بعضها كُتب أصلا بالعربية، فكتابا "الروضة" والبهجة" آنفا الذكر مثلا ألفهما محمد علي البقلي وحسن الرشيدي، على التوالي، وهما من أهم وأشهر أطباء مصر في القرن التاسع عشر، فالأول كان وكيلا لمدرسة طب قصر العيني والثاني كان مديرا للمستشفى المُلكي (أي المدني، غير العسكري) بالأزبكية.
وبعد أن حددتُ أكثر من ثلاثين عنوان من هذه العنواين توجهتُ لدار الكتب للاطلاع على هذه الكتب الهامة. ولكن على عكس دار الوثائق، فإن حال دار الكتب لا يسر، وهذا أقل ما يمكن قوله عن هذه المؤسسة الهامة. فخدمة القراء تكاد تكون معدومة، والبيئة التي تساعد على الاطلاع والتفكر غير موجودة. على أن الأهم من هذا وذاك أنني لم أجد سوى النذر البسيط، والبسيط جدا، مما كنت أبحث عنه. فبالرغم من القيمة التاريخية الفريدة لهذه الكتب، التي تعد من أوائل مطبوعات بولاق، أول مطبعة في مصر والتي نفتخر بها ونتشدق، فإن أغلبها كان إما "في الترميم" أو "مش ع الرف"، أو "مش موجود" حسب ما أخبرني به موظفو قاعة الاطلاع.
كان هذا الكلام من سنوات عديدة، وكنت قد فقدت الأمل في العثور على هذه الكتب ومطالعتها مكتفيا بما وجدته من درر في دار الوثائق. لذا كانت دهشتي وحسرتي في نفس الوقت، عندما اكتشفت الأسبوع الماضي أن مكتبة جامعة نيويورك (التي كنت أعمل بها) لديها نسخة ميكروفيليمة لثمانية وتسعين كتابا من أوائل مطبوعات مطبعة بولاق! أما حسرتي فكانت نابعة، بالطبع، من عثوري على هذه الكتب المصرية في الولايات المتحدة الأمريكية بينما فشلت في العثور عليها في موطنها الأصلي، مصر، والأدهى هو وجودها في مكتبة جامعة نيويورك، التي لا تعد من أهم أو أكبر المكتبات الجامعية في الولايات المتحدة، بينما لم أتمكن من الاطلاع على هذه المطبوعات المصرية الفريدة في دار الكتب المصرية، وهي المكتبة التي طالما تغنينا بماضيها وعراقتها ودور علي مبارك (وزكي جمعة) في تشييدها إلى آخر الاسطوانة المشروخة.
أما دهشتي فكانت، كما قلت، نابعة من العثور على هذه المكتبة في جامعة نيويورك، وهي وإن كانت مكتبة كبيرة إلا أنها لا تتميز بصفة خاصة بأهمية مقتنياتها من الكتب العربية، عكس مكتبة جامعة برينستون مثلا التي تحتوي مكتبتها ذات الخمسة مليون كتاب على نصف مليون كتاب من منطقتنا أغلبها بالعربية، والأخرى بالتركية أو الفارسية أو العبرية.
وأخذت أحاول معرفة كيف وصلت هذه الكتب لمكتبة جامعة نيويورك. وما اكتشفته كان سببا آخر لحسرتي.
كان من الواضح أن هذا العدد الكبير من الكتب (حوالي مائة كتاب) يشكل مجموعة متكاملة متجانسة، وأنه في الأغلب قد تم شراؤهم دفعة واحدة. وقد صدق حدسي عندما اكتشفت أن في أول كل فيلم من هذه الأفلام الميكروفيلمية إشارة إلى أنه مصور من أصل موجود في مكتبة كلية الدراسات الأفريقية والآسيوية بجامعة لندن (SOAS). عندها زاد فضولي لمعرفة لماذا وكيف ومتى اقتنت تلك الكلية هذه الكتب الغريبة؟ فما الذي يدفع مكتبة بريطانية لاقتناء كتب طبية وعلمية مترجمة للعربية عن أصل فرنسي؟
وسرعان ما أن جاءتني فكرة أخذت أحاول التأكد من صحتها. فمما لفت نظري أن كل هذه الكتب يعود تاريخ نشرها لما قبل عام 1850، إذ أن أقدمها هو كتاب "صناعة صباغة الحرير" وهو أول كتاب طُبع في بولاق (1823)، وأحدثها كتاب "كشف النقاب عن علم الحساب" المطبوع عام 1850. لماذا توقفت مكتبة SOAS عن اقتناء مطبوعات بولاق عام 1850؟ وما سر اهتمامها باقتناء كتاب تتناول كيفية صباغة الحرير مكتوب بالعربية عن أصل طلياني؟
كان حدسي هو أن الإجابة على هذا السؤال تكمن في تاريخ النشر. فما الذي حدث عام 1850 الذي قد يفسر سر وجود هذه المجموعة الفريدة من الكتب في مكتبة جامعة بريطانية في لندن؟
الإجابة في اعتقادي تكمن في حدث وقع في لندن في العام التالي، أي عام 1851، ففي هذا العام عقد في العاصمة البريطانية "المعرض العظيم للمنتجات الصناعية لكل الأمم" (The great exhibition of the works of industry of all nations)، وكان هذا المعرض هو أول معرض صناعي تجاري عالمي، وتلته معارض كثيرة في باريس وستوكهولم وشيكاغو وغيرها من المدن الغربية. وكانت الدول تتباهى في هذه المعارض بتقديم آخر ما لديها من بدع ومبتكرات واختراعات، وكان معرض لندن عام 1851 خصيصا يحتفل بقيمة الصناعة، فبريطانيا كانت في أوج ثورتها الصناعية وكانت تتفاخر بما تقدمه الصناعة والعلم الحديث من آمال ووعود بحل كل مشاكل البشرية. وكان الأمير ألبرت، زوج الملكة فيكتوريا، هو الراعي الرسمي للمعرض، وقد أقيم المعرض في قصر من الزجاج والحديد كان نفسه تحفة معمارية وتكنولوجية وجاء معبرا عن تلك الثقة العميقة فيما يقدمه العلم من آمال للبشرية.
ومن المعروف أن مصر شاركت في هذا المعرض الرائد، وأن جناحها كان يضاهي جناح تركيا في الحجم، وخطر في بالي أن سر وجود أوائل مطبوعات بولاق في مكتبة كلية الدراسات الأفريقية والآسيوية بلندن قد يعود لاشتراك مصر في هذا المعرض، ولإرسالها بهذه الكتب ضمن معروضاتها فيه. وللتأكد من هذه الفكرة أخذت أبحث عن نسخة من الكتالوج الرسمي لهذا المعرض، وبالفعل وجدتُ نسخة رقمية قامت جوجل بمسحه وعرضه على الإنترنت.
وبتصفح الكتالوج وجدت وصفا دقيقا للمعروضات المصرية. كانت المنتجات التي أرسلتها مصر للمعرض الصناعي في لندن عام 1851 معبرة عن الحالة التي وصلت لها الصناعة والعلم في مصر في هذا الوقت، فمن ضمن المعروضات، التي بلغ عددها ثلاثمائة وواحد وتسعين قطعة، نقرأ الوصف التالي :"سكر مكرر من إنتاج معامل إبراهيم باشا"؛ "فوطة بكنار"؛ "قربة من جلد الماعز"؛ "جلد جمل"؛ "سروال من الحرير المقصب"؛ "زعفران"، "قصب سكر"؛ "زيت سمسم"؛ "باسلاء". أما رقم 248 في هذه القائمة من المعروضات المصرية فجاء مؤشرا أمامه الوصف الآتي :"165 كتابا بالتركية والعربية والفارسية، من مطبوعات بولاق".
ذلك إذن هو سر وجود هذه الكتب في لندن. فبانتهاء المعرض بقيت الكتب في لندن ولم تعد مع البعثة المصرية (التي كان يترأسها "اليوزباشي عبد الحميد من الإسكندرية" حسبما يخبرنا الكتالوج الرسمي)، وأغلب الظن أن القائمين على المعرض بحثوا عمن قد يكون مهتما بهذه الكتب فراوا أن جامعة لندن الأجدر بالاحتفاظ بها.
ما يبهر حقا في هذه القصة هو أن مصر عام 1851 عندما قررت الاشتراك في هذه المعرض الصناعي العلمي العالمي رأت أن ما يمكن أن تتباهى به هو هذه الكتب المطبوعة محليا. وبقراءة هذه الكتب نستطيع الوقوف على سر الاعتزاز بها وتضمينها داخل المنتجات المصرية في هذه المعرض. فتلك لم تكن كتب في التاريخ أو اللغة أو التراث، بل كانت أغلبها كتبا طبية حديثة، بل أن أصولها الفرنسية كانت قد كتبت قبل ذلك بسنوات قليلة. وبمعنى آخر فكان الاعتقاد وقتها أن مصر من حقها أن تتباهى بقدرتها على ترجمة آخر ما وصل إليه الطب الحديث، وبنجاحها في طباعة هذه الترجمات في كتب رائعة من حيث الورق والشكل الحروف والتجليد.
على أن أهم ما يبهر في هذه الكتب التي استطعت أخيرا قراءتها هنا في نيويورك هو أمران، الأول هو اللغة العذبة التي استطاع المترجمون المصريون (محمد الهراوي، وسالم قناواتي، ويوحنا عنهوري وغيرهم) أن يصيغوها ويترجموا بها آخر صيحات الطب الحديث إلى العربية. أما الأمر الثاني الذي نستطيع أن نستشفه من المقدمات المسجوعة لهذه الكتب هو الثقة المفرطة في النفس والاعتزاز بما استطاعت مطبعة بولاق ومدرسة الطب البشري من تحقيقه، والتأكيد في كتاب تلو الآخر على أن هذا الجهد الجبار للترجمة ليس مقصودا منه نقل العلم من الغرب للشرق أو اللحاق بركب الحضارة والمدنية، إلى آخر الاسطوانة المشروخة الأخرى عن صراع الحضارات ونقاء الهوية، بل إحياء ما قد اندرس من العلم في مصر والانخراط في البحث العلمي الذي لا يعرف ملة أو دين.
بعد ثلاثة أيام قضيتها في تتبع قصة هذه الكتب وفي قراءتها والتفكر فيما تعبر عنه من لحظة تاريخية مفعمة بالثقة والأمل أخذت اتحسر على حالنا اليوم وحال كتبنا ومكتباتنا. فها أنا أجلس في مكتبة في نيويورك أقرأ كتبا طبية طبعت في مطبعة بولاق بينما فشلت في الاطلاع على هذه الكتب في مكتباتنا في مصر. وبينما أدركت جامعة لندن أهمية هذه الكتب وأتاحتها لغيرها من المكتبات الجامعية (ومن بينها مكتبة جامعة نيويورك) على نسخة ميكروفيلمية، لا توجد لهذه الكتب الفريدة نسخ في موطنها الأصلي.
ثم جاءات الواقعة الثانية التي أشرت إليها في صدر هذا المقال لتزيد من الحسرة على أحوال هذا البلد. فقد جائتني رسالة مقتضبة على الإيميل من الجامعة الأمريكية بالقاهرة التي أتشرف بالعمل بها تقول إن الكتاب المقرر الذي طلبت استيراده لتدريسه في مادة "التاريخ العربي الحديث" قد تم منعه من قِبل مكتب الرقابة على المطبوعات. وطبعا سبب المنع غير معلن ولا معروف. وطبعا الكتاب لا يوجد فيه ما يسيء لتاريخ العرب من قريب أو بعيد، بل أن هذه الكتاب يعد من أحسن الكتب الدراسية التي تقدم تاريخ المنطقة بشكل سلس للطالب الجامعى المبتدئ، وهو ما حدا بي أن استخدمه في فصولي لمدة عشر سنوات.
ولكن وبغض النظر عن تفاصيل الكتاب وما يحتويه، لم أتمالك نفسي من عقد مقارنة بين وضعنا عام 1851 وبين وضعنا عام 2012. في منتصف القرن التاسع عشر كنا أصحاب حضارة وعلم بحق وحقيق، ذلك عندما انكببنا على العلم ولم نسأل من أين أتى هذا العلم ومن كتبه، وأخذنا نترجم منه ونزيد عليه دون هواجس تتعلق بالهوية والتراث والأمن القومي. أما الآن فبعدما فشلت جامعاتنا ومكتباتنا في الاحتفاظ بالكتب التي ترجمناها وطبعناها ونشرناها، وبعد أن ضيعنا حتى انجازاتنا الماضية في الإقبال على ما تحتويه هذه الكتب من علم، أمسينا مضطرين للذهاب لجامعات ومكتبات الغرب للإطلاع على تلك المطبوعات. ثم نزيد الطين بلة بأن مسّكنا القط مفتاح الكرار وأعطينا مسئولية الحفاظ على الأمن القومي لموظفين متخلفين في مكتب الرقابة على المطبوعات الذين يثبتون في كل يوم مدى جهلهم بأولويات البحث العلمي بل أيضا استهتارهم بالأمن القومي. فللمرة الألف أقول إن الأمن القومي يا سادة لا يتحقق بمنع الكتب بل بإتاحتها.
[نشر للمرة الاولى في "أخبار الأدب" وتعيد جدلية نشره بالاتفاق مع الكاتب]